فصل: فصل: في الجِماع والباه وهَدْى النبى صلى الله عليه وسلم فيه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في الجِماع والباه وهَدْى النبى صلى الله عليه وسلم فيه

وأما الجِماعُ والباهُ ، فكان هَدْيُه فيه أكملَ هَدْىٍ ، يحفَظ به الصحة ، وتتمُّ به اللَّذةُ وسرور النفس ، ويحصل به مقاصدُه التي وُضع لأجلها ، فإن الجِمَاع وُضِعَ في الأصل لثلاثة أُمور هي مقاصدُه الأصلية ‏:‏

أحدها ‏:‏ حفظُ النسل ، ودوامُ النوع إلى أن تتكاملَ العُدة التي قدَّر الله بروزَها إلى هذا العالَم ‏.‏

الثانى ‏:‏ إخراجُ الماء الذي يضر احتباسُه واحتقانُه بجملة البدن ‏.‏

الثالث ‏:‏ قضاءُ الوَطر ، ونيلُ اللَّذة ، والتمتعُ بالنعمة ، وهذه وحدَها هي الفائدةُ التي في الجنَّة ، إذ لا تناسُلَ هناك ، ولا احتقانَ يستفرِغُه الإنزالُ ‏.‏

وفضـلاءُ الأطباء ‏:‏ يرون أنَّ الجِمَاع من أحد أسـباب حفظ الصحة ‏.‏ قال ‏(‏جالينوسُ‏)‏ ‏:‏ الغالبُ على جوهر المَنِىِّ النَّارُ والهواءُ ، ومِزاجُه حار رطب ، لأن كونه من الدم الصافى الذي تغتذى به الأعضاءُ الأصلية ، وإذا ثبت فضلُ المَنِىِّ ، فاعلم أنه لا ينبغى إخراجُه إلا في طلب النسل ، أو إخراجُ المحتقن منه ، فإنه إذا دام احتقانُه ، أحدث أمراضاً رديئة ، منها ‏:‏ الوسواسُ والجنون ، والصَّرْع ، وغيرُ ذلك ، وقد يُبرئ استعمالُه من هذه الأمراض كثيراً ، فإنه إذا طال احتباسُه ، فسد واستحال إلى كيفية سُمِّية تُوجب أمراضاً رديئة كما ذكرنا ، ولذلك تدفعُه الطبيعةُ بالاحتلام إذا كثر عندها من غير جِمَاع ‏.‏

وقال بعض السَّلَف ‏:‏ ينبغى للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثاً ‏:‏ أن لا يدعَ المشىَ ، فإن احتاج إليه يوماً قدَر عليه ، وينبغى أن لا يدَع الأكل ، فإن أمعاءه تضيق ، وينبغى أن لا يدَع الجِمَاعَ ، فإن البئر إذا لم تُنزحْ ، ذهب ماؤها ‏.‏

وقال محمد بن زكريا ‏:‏ مَن ترك الجِمَاعَ مدةً طويلة ، ضعفتْ قُوى أعصابه ، وانسدَّت مجاريها ، وتقلَّص ذَكرُه ‏.‏ قال ‏:‏ ورأيتُ جماعة تركوه لنوع من التقشف ، فبرُدَتْ أبدانُهُم ، وعَسُرَتْ حركاتُهُم ، ووقعتْ عليهم كآبةٌ بلا سبب ، وقَلَّتْ شهواتُهُم وهضمُهُم ‏.‏‏.‏ انتهى ‏.‏

ومن منافعه ‏:‏ غضُّ البصر ، وكفُّ النفس ، والقدرةُ على العِفَّة عن الحرام ، وتحصيلُ ذلك للمرأة ، فهو ينفع نفسه في دنياه وأُخراه ، وينفع المرأة ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعاهدُه ويُحبُه ، ويقول ‏:‏ ‏(‏حُبِّبَ إلىَّ مِن دُنْيَاكُمُ ‏:‏ النِّسَاءُ والطِّيبُ‏)‏ ‏.‏

وفى كتاب ‏(‏الزهد‏)‏ للإمام أحمد في هذا الحديث زيادةٌ لطيفة ، وهى ‏:‏ ‏(‏أصبرُ عن الطعام والشراب ، ولا أصبرُ عنهنَّ ‏)‏ ‏.‏

وحثَّ على التزويج أُمَّته ، فقال ‏:‏ ‏(‏تَزَوَّجوا ، فإنِّى مُكاثرٌ بِكُمُ الأُمَمَ‏)‏ ‏.‏

وقال ابن عباس ‏:‏ خيرُ هذه الأُمة أكثرُها نِساءً ‏.‏

وقال ‏:‏ ‏(‏إنِّى أتزوَّجُ النساءَ ، وأنامُ وأقومُ ، وأَصُومُ وأُفطِرُ ، فمن رَغِبَ عن سُـنَّتى فليس منِّى‏)‏ ‏.‏

وقال ‏:‏ ‏(‏يا معشرَ الشبابِ ؛ مَن استطاعَ منكم الباءَةَ فلْيَتَزَوَّجْ ، فإنه أغضُّ للبصرِ ، وأحْفَظُ للْفِرْج ، ومَن لم يستطعْ ، فعليه بالصومِ ، فإنه له وِجاءٌ‏)‏

ولما تزوج جابر ثيِّباً قال له ‏:‏ ‏(‏هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ‏)‏ ‏.‏

وروى ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ من حديث أنس بن مالك قال ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مَن أراد أنْ يَلْقَى اللهَ طاهراً مُطَهَّراً ، فَلْيَتَزَوَّج الحَرَائِرَ‏)‏ ‏.‏ وفى ‏(‏سننه‏)‏ أيضاً من حديث ابن عباس يرفعه ، قال ‏:‏ ‏(‏لم نَرَ للمُتَحابَّيْن مِثْلَ النِّكاحِ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ من حديث عبد الله بن عمر ، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الدُّنيا مَتَاعٌ ، وخَيْرُ متاع الدُّنْيا المرأةُ الصَّالِحَةُ‏)‏ ‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يُحرِّض أُمته على نكاح الأبكار الحسان ، وذواتِ الدين ، وفى ‏(‏سنن النسائى‏)‏ عن أبى هريرةَ قال ‏:‏ سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أىُّ النساءِ خير ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏التي تَسُرُّهُ إذا نَظَرَ ، وتُطِيعُهُ إذا أَمَرَ ، ولا تُخَالِفُه فيما يَكَرَهُ في نفسِها ومالِهِ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ عنه ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ ‏(‏تُنكَحُ المرأةُ لمالِها ، ولِحَسَبِها ، ولِجَمَالِها ، ولِدِينِهَا ، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّين ، تَرِبَتْ يَدَاكَ‏)‏ ‏.‏

وكان يَحثُّ على نكاح الوَلُود ، وَيَكرهُ المرأة التي لا تلد ، كما في ‏(‏سنن أبى داودَ‏)‏ عن مَعْقِل بن يَسار ، أنَّ رجلاً جاء إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ إنى أصَبتُ امرأةً ذاتَ حَسَبٍ وجمالٍ ، وإنَّها لاَ تَلِدُ ، أَفَأَتَزَوَّجُها ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ ، ثم أتاه الثانيةَ ، فَنَهَاه ، ثم أتاه الثالثةَ ، فقال ‏:‏ ‏(‏تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ ، فإنِّى مُكَاثِرٌ بِكُمْ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏الترمذى‏)‏ عنه مرفوعاً ‏:‏ ‏(‏أَرْبَعٌ من سُنن المُرْسَلِينَ ‏:‏ النِّكاحُ ، والسِّواكُ ، والتَّعَطُّرُ والحِنَّاءُ‏)‏ ‏.‏ رُوى في ‏(‏الجامع‏)‏ بالنون و والياء ، وسمعتُ أبا الحجَّاج الحافظَ يقول ‏:‏ الصواب ‏:‏ أنه الخِتَان ، وسقطت النونُ من الحاشية ، وكذلك رواه المَحَامِلىُّ عن شيخ أبى عيسى الترمذى ‏.‏

وممَّا ينبغى تقديُمُه على الجِماع ملاعبةُ المرأة ، وتقبيلُها ، ومصُّ لِسانها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يُلاعبُ أهله ، ويُقَبلُها

وروى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏ ‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم ‏(‏كان يُقبِّلُ عائشةَ ، ويمصُّ لِسَانَها‏)‏ ‏.‏

ويُذكر عن جابر بن عبد الله قال ‏:‏ ‏(‏نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن المُواقعةِ قبلَ المُلاَعَبَةِ‏)‏ ‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم ربما جامع نساءَه كُلَّهن بغُسل واحد ، وربما اغتَسَلَ عند كل واحدة منهن ، فروى مسلم في ‏(‏ صحيحه ‏)‏ عن أنس أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يَطوفُ على نسائه بغُسْلٍ واحد ‏.‏

وروى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏ عن أبي رافع مولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة ، فاغتَسَلَ عند كلِّ امرأةٍ منهنَّ غُسلاً ، فقلتُ ‏:‏ يا رسول الله ؛ لو اغتسلتَ غُسلاً واحداً ، فقال ‏:‏ ‏(‏هذا أزكى وأطْهَرُ وأطْيَبُ‏)‏ ‏.‏

وشُرع للمُجامِع إذا أراد العَودَ قبل الغُسل الوضوء بين الجِمَاعَيْن ، كما روى مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ من حديث أبى سعيد الخدرىِّ ، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا أتى أحدُكُم أَهْلَهُ ، ثم أرادَ أن يعودَ فلْيَتَوَضأ‏)‏ ‏.‏

وفى الغُسْلِ والوضوء بعد الوطء من النشاطِ ، وطيبِ النفس ، وإخلافِ بعض ما تحلَّل بالجِماع ، وكمالِ الطُهْر والنظافة ، واجتماع الحار الغريزى إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجِماع ، وحصولِ النظافة التي يُحبها الله ، ويُبغض خلافها ما هو مِن أحسن التدبير في الجِماع ، وحفظ الصحة والقُوَى فيه ‏.‏

فصل

وأنفعُ الجِماع ‏:‏ ما حصلَ بعد الهضم ، وعند اعتدال البدن في حرِّه وبرده ، ويُبوسته ورطوبته ، وخَلائه وامتلائه ‏.‏ وَضَرَرُه عند امتلاء البدن أسهلُ وأقل من ضرره عند خُلوِّه ، وكذلك ضررُه عند كثرة الرطوبة أقلُّ منه عند اليبوسة ، وعند حرارته أقلُّ منه عند برودته ، وإنما ينبغى أن يُجامِعَ إذا اشتدتْ الشهوةُ ، وحصَلَ الانتشارُ التام الذي ليس عن تكلُّفٍ ، ولا فكرٍ في صورة ، ولا نظرٍ متتابع ‏.‏

ولا ينبغى أن يستدعىَ شهوةَ الجِماع ويتكلفها ، ويحمل نفسه عليها ، وليُبادْر إليه إذا هاجتْ به كثرةُ المَنِىِّ ، واشتد شَبَقُهُ ، وليحذرْ جِماعَ العجوز والصغيرةِ التي لا يُوطأُ مثلُها ، والتي لا شهوة لها ، والمريضةِ ، والقبيحةِ المنظرِ ، والبَغيضة ، فوطءُ هؤلاء يُوهن القُوَى ، ويُضعف الجِماع بالخاصِّية ، وغلط مَن قال من الأطباء ‏:‏ إن جِماع الثيِّب أنفعُ من جِماع البكر وأحفظُ للصحة ، وهذا من القياس الفاسد ، حتى ربما حذَّر منه بعضُهم ، وهو مخالف لِما عليه عقلاءُ الناسِ ، ولِما اتفقتْ عليه الطبيعةُ والشريعة ‏.‏

وفى جِماع البِكر من الخاصِّية وكمالِ التعلُّق بينها وبين مُجامعها ، وامتلاءِ قلبها من محبته ، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره ، ما ليس للثَيِّب ‏.‏ وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لجابر ‏:‏ ‏(‏ هلاَّ تَزوَّجتَ بِكراً ‏)‏ ، وقد جعل الله سبحانه من كمالِ نساء أهل الجنَّة من الحُور العين ، أنَّهن لم يَطْمِثْهُنَّ أحدٌ قبلَ مَن جُعِلْنَ له ، من أهل الجنَّة ‏.‏ وقالت عائشةُ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أرأيْتَ لو مَرَرْتَ بشجرةٍ قد أُرْتِعَ فيها ، وشجرةٍ لم يُرْتَعْ فيها ، ففى أيِّهما كنتَ تُرتِعُ بعيرَك ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ في التي لم يُرْتَعْ فيها ‏)‏ ‏.‏ تريد أنه لم يأخذ بكراً غيرَها ‏.‏

وجِماعُ المرأة المحبوبة في النفس يَقِلُّ إضعافُهُ للبدن مع كثرةِ استفراغه للمَنِىِّ ، وجماع البغيضة يُحِلُّ البدن ، ويُوهن القُوَى مع قِلَّةِ استفراغه ، وجِماعُ الحائض حرامٌ طبعاً وشرعاً ، فإنه مضرٌ جداً ، والأطباء قاطبةً تُحَذِّر منه ‏.‏

وأحسنُ أشكالِ الجِماع أن يعلوَ الرجلُ المرأةَ ، مُستفرِشاً لها بعدَ المُلاعبة والقُبلة ، وبهذا سُميت المرأة فِراشاً ، كما قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ الولَدُ لِلفِراش ‏)‏ ، وهذا من تمام قَوَّامية الرجل على المرأة ، كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏ ، وكما قيل ‏:‏

إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشَاً يُقِلُّنِى ** وَعِنْدَ فَرَاغِى خَادِمٌ يَتَمَلَّقُ

وقد قال تعالى ‏:‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ ، وأكملُ اللِّباس وأسبَغُه على هذه الحال ، فإن فِراش الرجل لباسٌ له ، وكذلك لِحَافُ المرأة لباسٌ لها ، فهذا الشكلُ الفاضلُ مأخوذٌ من هذه الآية ، وبه يَحسن موقعُ استعارةِ اللِّباس من كل من الزوجين للآخر ‏.‏

وفيه وجه آخرُ ، وهو أنها تَنعطِفُ عليه أحياناً ، فتكونُ عليه كاللِّباس ، قال الشاعر ‏:‏

إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَها ** تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

وأردأُ أشكاله أن تعلُوَهُ المرأةُ ، ويُجامِعَها على ظهره ، وهو خلافُ الشكل الطبيعى الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة ، بل نوعَ الذكر والأُنثى ، وفيه من المفاسد ، أنَّ المَنِىَّ يتعسَّرُ خروجُه كلُّه ، فربما بقى في العضو منه فيتعفنُ ويفسد ، فيضر ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فربما سال إلى الذَّكر رطوباتٌ من الفَرْج ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنَّ الرَّحِم لا يتمكن من الاشتمال على الماء واجتماعِهِ فيه ، وانضمامِهِ عليه لتَخْلِيقِ الولد ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنَّ المرأة مفعولٌ بها طبعاً وشرعاً ، وإذا كانت فاعلة خالفتْ مقتضى الطبع والشرع ‏.‏

وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جُنوبهن على حَرْفٍ ، ويقولون ‏:‏ هو أيسرُ للمرأة ‏.‏

وكانت قريش والأنصار تَشْرَحُ النِّساءَ على أقْفَائِهن ، فعابَتِ اليهودُ عليهم ذلك ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ ‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏‏.‏

وفى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ عن جابر ، قال ‏:‏ كانت اليهود تقولُ ‏:‏ إذا أتى الرجلُ امرأتَه من دُبُرِها في قُبُلِها ، كان الولدُ أَحوَلَ ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ ‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏‏.‏

وفى لفظ لمسلم ‏:‏ ‏(‏ إن شاء مُجَبِّيَة ، وإن شاء غير مُجَيِّبَة ، غَيْرَ أنَّ ذلك في صِمِامٍ واحدٍ ‏)‏ ‏.‏

و‏(‏ المُجَبِّبَة ‏)‏ ‏:‏ المُنْكَبَّة على وجهها ، و‏(‏الصمام الواحد‏)‏ ‏:‏ الفَرْج ، وهو موضع الحرْثِ والولد ‏.‏

وأما الدُّبرُ ‏:‏ فلم يُبَحْ قَطُّ على لسان نبىٍّ من الأنبياء ، ومَن نسب إلى بعض السَّلَف إباحة وطء الزوجة في دُبُرها ، فقد غلط عليه ‏.‏

وفى ‏(‏ سنن أبى داود ‏)‏ عن أبى هريرة ، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ ملعونٌ مَن أتى المرأةَ في دُبُرِها ‏)‏ ‏.‏

وفى لفظ لأحمد وابن ماجه ‏:‏ ‏(‏لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ جَامَعَ امرأتَه في دُبُرِها‏)‏‏.‏

وفى لفظ للترمذى وأحمد ‏:‏ ‏(‏مَن أتى حائضاً ، أو امرأةً في دُبُرِها ، أوْ كاهناً فَصَدَّقَهُ ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏ ‏.‏

وفى لفظ للبيهقى ‏:‏ ‏(‏مَنْ أتى شيئاً مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ في الأدبار فقد كفر‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏ مصنَّف وكِيع ‏)‏ ‏:‏ حدثنى زمْعة بن صالح ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن يَزيد ؛ قال ‏:‏ قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيى من الحقِّ ، لا تأتُوا النِّسَاءَ في أعجازِهِنَّ ‏)‏ ، وقال مَرَّة ‏:‏ ‏(‏ في أدبارِهِنَّ ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ الترمذى ‏)‏ ‏:‏ عن على بن طَلْق ، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ لا تأتوا النِّسَاءَ في أعجازِهِنَّ ، فإن الله لا يستحى من الحقِّ ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ الكامل ‏)‏ لابن عَدِى ‏:‏ من حديثه عن المحامِلى ، عن سعيد بن يحيى الأموىِّ ، قال ‏:‏ حدَّثنا محمد بن حمزَةَ ، عن زيد بن رَفيع ، عن أبى عُبيدة ، عن عبد الله بن مسعود يرفعه ‏:‏ ‏(‏ لا تأتوا النِّسَاءَ في أعْجَازِهِنَّ ‏)‏ ‏.‏

وروينا في حديث الحسن بن على الجوهرىِّ ، عن أبى ذرٍّ مرفوعاً ‏:‏ ‏(‏ مَنْ أتى الرِّجَال والنِّسَاءَ في أدْبَارِهنَّ ، فقد كَفَرَ ‏)‏ ‏.‏

وروى إسماعيل بن عيَّاش ، عن سُهيل بن أبى صالح ، عن محمد ابن المُنْكَدِر ، عن جابر يرفعه ‏:‏ ‏(‏ اسْتَحْيُوا مِنَ الله ، فإنَّ اللهَ لا يَسْتَحيى مِنَ الحقِّ ، لا تأْتُوا النِّسَاءَ في حُشُوشِهِنَّ ‏)‏ ‏.‏

ورواه الدارقُطنِىُّ من هذه الطريق ، ولفظه ‏:‏ ‏(‏ إنَّ الله لا يَسْتَحيى مِنَ الحق ، لا يَحلُّ مَأْتَاك النِّسَاءَ في حُشُوشِهِنَّ ‏)‏ ‏.‏

وقال البغوىُّ ‏:‏ حدثنا هُدْبَةُ ، حدثنا همَّام ، قال ‏:‏ سُئِل قتادة عن الذي يأتى امرأته في دُبُرِها ؛ فقال ‏:‏ حَدَّثنى عمرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ‏(‏ تلك اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرى ‏)‏ ‏.‏

وقال أحمد في ‏(‏ مسنده ‏)‏ ‏:‏ حدَّثنا عبد الرحمن ، قال ‏:‏ حدَّثنا همَّام ، أُخبِرنا عن قتادَةَ ، عن عمرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده ، فذكره ‏.‏

وفى ‏(‏ المسند ‏)‏ أيضاً ‏:‏ عن ابن عباس ‏:‏ أنزلت هذه الآية ‏:‏ ‏{‏نِسَاءُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ في أُناسٍ من الأنصار ، أتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه ، فقال ‏:‏ ‏(‏ ائْتِها على كُلِّ حال إذا كان في الفَرْج ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ المسند ‏)‏ أيضاً ‏:‏ عن ابن عباس ، قال ‏:‏ جاء عمرُ بنُ الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ هلكتُ ‏.‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ وما الذي أهلكَكَ ‏)‏ ‏؟‏ قال ‏:‏ حَوَّلْتُ رَحْلى البارِحَةَ ، قال ‏:‏ فلم يَرُدَّ عليه شيئاً ، فأوحى الله إلى رسوله‏:‏ ‏{‏نِسَاءُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ أَقْبِلْ وأَدْبِرْ ، واتَّقِ الحَيْضَةَ والدُّبُرَ ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ الترمذى ‏)‏ ‏:‏ عن ابن عباس مرفوعاً ‏:‏ ‏(‏ لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ أتى رَجُلاً أو امرأةً في الدُّبُرِ ‏)‏ ‏.‏

وروينا من حديث أبى على الحسن بن الحسين بن دُومَا ، عن البَراء بن عازِب يرفعه ‏:‏ ‏(‏ كَفَرَ باللهِ العظيم عشرةٌ من هذه الأُمة ‏:‏ القاتِلُ ، والسَّاحِرُ ، والدُّيُّوثُ ، وناكحُ المرأةِ في دُبُرِها ، ومانِعُ الزكاةِ ، ومَن وَجَدَ سَعَةً فماتَ ولم يَحُجَّ ، وشاربُ الخَمْرِ ، والسَّاعِى في الفِتَنِ ، وبائعُ السِّلاحِ من أهلِ الحربِ ، ومَن نكَح ذَاتَ مَحْرَمٍ منه ‏)‏ ‏.‏

وقال عبد الله بن وهب ‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن لَهيعةَ ، عن مِشرَح بن هاعانَ ، عن عقبةَ بن عامر ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ‏(‏ مَلْعُونٌ مَن يأتى النِّسَاءَ في محاشِّهِنَّ ‏)‏ ؛ يعنى ‏:‏ أدْبَارِهِنَّ ‏.‏

وفى ‏(‏ مسند الحارث بن أبى أُسامة ‏)‏ من حديث أبى هريرة ، وابن عباس قالا ‏:‏ خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ، وهى آخِرُ خُطبةٍ خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عَزَّ وَجَلَّ ، وعظنا فيها وقال ‏:‏ ‏(‏ مَن نَكَحَ امرأَةً في دُبُرِها أو رجلاً أو صَبِيَّاً ، حُشِرَ يَوْمَ القيامة ، وريحُهُ أنْتَنُ مِنَ الجِيفةِ يتأذَّى به النَّاسُ حتى يَدْخُلَ النَّار ، وأَحْبَطَ اللهُ أجرَهُ ، ولا يَقْبَلُ منه صَرْفاً ولا عدلاً ، ويُدْخَلُ في تابوتٍ من نارٍ ، ويُشَدُّ عليه مَساميرُ من نارٍ‏)‏ ، قال أبو هريرة ‏:‏ هذا لمن لم يتب‏.‏

وذكر أبو نعيم الأصبهاني ، من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه ، ‏(‏إنَّ الله لا يَسْتَحي مِنَ الحَق ، لا تأتوا النِّساَء في أَعْجاَزِهِنَّ‏)‏‏.‏

وقال الشافعي ‏:‏ أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع ، قال ‏:‏ أخبرني عبد الله بن علي بن السائب ، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح ، عن خزيمة بن ثابت ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال‏:‏ ‏(‏حلال‏)‏ ، فلما ولى ، دعاه فقال ‏:‏ ‏(‏كيف قُلتَ ، في أيِّ الخُرْبَتَينِ ، أو في أي الخَرْزَتَينِ ، أو في أيِّ الخَصْفَتَينِ أمنْ دُبُرهاَ في قُبُلهَا ‏؟‏ فَنَعَم ‏.‏ أم مِنْ دُبُرِهاَ في دُبُرِهاَ ، فلا ، إنَّ الله لا يَسْتَحيِي مِنَ الحَق ، لا تأتوا النِّساَء في أَدبارهِنَّ‏)‏‏.‏

قال الربيع‏:‏ فقيل للشافعي ‏:‏ فما تقول ‏؟‏ فقال ‏:‏ عمي ثقة ، وعبد الله بن علي ثقة ، وقد أثنى على الأنصاري خيراً ، يعني عمرو بن الجلاح ، وخزيمة ممن لا يشك في ثقته ، فلست أرخص فيه ، بل انهي عنه‏.‏

قلت ‏:‏ ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة ، فإنهم أباحوا أن يكون الدُّبر طريقاً إلى الوطء في الفرج ، فيطأ من الدبر لا في الدبر ، فاشتبه على السامع ‏(‏من‏)‏ بـ ‏(‏في‏)‏ ولم يظن بينهما فرقاً ، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة ، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ قال مجاهد ‏:‏ سألتُ ابن عَبَّاس عن قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ ، فقال ‏:‏ تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض ‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة عنه يقول ‏:‏ في الفرج ، ولا تعدُه إلى غيره ‏.‏

وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين ‏:‏ أحدهما ‏:‏ أنه أباح إتيانها في الحرث ، وهو موضع الولد لا في الحُشّ الذي هو موضع الأذى ، وموضع الحرث هو المراد من قوله ‏:‏ ‏{‏مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ الآية قال ‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ وإتيانُها في قبلها مِن دبرها مستفادٌ من الآية أيضا ، لأنه قال ‏:‏ أنى شئتم ، أي ‏:‏ من أين شئتم من أمام أو من خلف ‏.‏ قال ابن عباس ‏:‏ فأتوا حرثكم ، يعني ‏:‏ الفرج ‏.‏

وإذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فللمرأة حق على الزوج في الوطء ، ووطؤها في دُبرها يفوِّتُ حقها ، ولا يقضي وطَرَها ، ولا يُحَصِّل مقصودها‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ، ولم يخلق له ، وإنما الذي هيئ له الفرج ، فالعادلون عنه إلى الدُّبُر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهي عنه عقلاءُ الأطباء منِ الفلاسفة وغيرهم ، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطءُ في الدُّبُر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ، ولا يخرج كلَّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعى ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ يضر من وجه آخَر ، وهو إحواجُه إلى حركات متعبةٍ جداً لمخالفته للطبيعة ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه محل القذر والنَّجْوِ ، فيستقبلُه الرَّجل بوجهه ، ويُلابسه ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يضرُّ بالمرأة جداً ، لأنه واردٌ غريب بعيدٌ عن الطباع ، مُنافر لها غايةَ المنافرة ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يُحِدثُ الهمَّ والغم ، والنفرةَ عن الفاعل والمفعول ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يُسَوِّدُ الوجه ، ويُظلم الصدر ، ويَطمِسُ نور القلب ، ويكسو الوجه وحشةً تصير عليه كالسِّيماء يعرِفُها مَن له أدنى فراسة ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يُوجب النُّفرة والتباغض الشديد ، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ، ولا بُدَّ ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكادُ يُرجَى بعده صلاح ، إلا أن يشاءَ الله بالتوبة النصوح ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يُذهبُ بالمحاسن منهما ، ويكسوهما ضِدَّها ‏.‏ كما يُذهب بالمَوَدَّة بينهما ، ويُبدلهما بها تباغضاً وتلاعُناً ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه من أكبر أسباب زوال النِعَم ، وحُلول النِقَم ، فإنه يوجب اللَّعنةَ والمقتَ من الله ، وإعراضه عن فاعله ، وعدم نظره إليه ، فأىُّ خير يرجوه بعد هذا ، وأىُّ شر يأمنُه ، وكيف حياة عبد قد حلَّتْ عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ، ولم ينظر إليه ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يُذهب بالحياءِ جملةً ، والحياءُ هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلبُ ، استحسَن القبيح ، واستقبحَ الحسن ، وحينئذٍ فقد استَحكَم فسادُه ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنهُ يُحيل الطباعَ عما رَكَّبَها الله ، ويُخرج الإنسانَ عن طبعه إلى طبع لم يُركِّب الله عليه شيئاً من الحيوان ، بل هو طبع منكوس ، وإذا نُكِسَ الطبعُ انتكس القلب ، والعمل ، والهدى ، فيستطيبُ حينئذٍ الخبيثَ من الأعمال والهيئات ، ويفسد حاله وعملُه وكلامه بغير اختياره ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يُورِث مِنَ الوقاحة والجُرأة ما لا يُورثه سواه ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يُورث مِنَ المهانة والسِّفال والحقَارة ما لا يورثه غيره ‏.‏

وأيضاً ‏:‏ فإنه يكسو العبدَ مِن حُلَّة المقت والبغضاء ، وازدراءِ الناس له ، واحتقارِهم إيَّاه ، واستصغارِهم له ما هو مشاهَدٌ بالحسِّ ، فصلاة الله وسلامه على مَن سعادةُ الدنيا والآخرة في هَدْيِه واتباعِ ما جاء به ، وهلاكُ الدنيا والآخرة في مخالفة هَدْيِه وما جاء به ‏.‏

فصل

والجِماع الضار ‏:‏ نوعان ؛ ضارٌ شرعاً ، وضارٌ طبعاً ‏.‏

فالضار شرعاً ‏:‏ المحرَّم ، وهو مراتبُ بعضُها أشدُّ من بعض ‏.‏ والتحريمُ العارض منه أخفُّ من اللازم ، كتحريم الإحرام ، والصيام ، والاعتكاف ، وتحريم المُظاهِرِ منها قبل التكفير ، وتحريمِ وطء الحائض ‏.‏‏.‏‏.‏ ونحو ذلك ، ولهذا لا حدَّ في هذا الجِمَاع ‏.‏

وأما اللازمُ ‏:‏ فنوعان ؛ نوعٌ لا سبيل إلى حِلَّه ألبتة ، كذواتِ المَحارم ، فهذا من أضر الجِمَاع ، وهو يُوجب القتل حداً عند طائفة من العلماء ، كأحمد ابن حنبلٍ رحمه الله وغيرِه ، وفيه حديث مرفوع ثابت ‏.‏

والثانى ‏:‏ ما يمكن أن يكون حلالاً ، كالأجنبية ، فإن كانت ذاتَ زوج ، ففى وطئها حَقَّان ‏:‏ حقٌّ للهِ ، وحقٌّ للزوج ‏.‏ فإن كانت مُكرَهة ، ففيه ثلاثةُ حقوق ، وإن كان لها أهل وأقاربُ يلحقهم العارُ بذلك صار فيه أربعةُ حقوق ، فإن كانت ذات مَحْرَم منه ، صار فيه خمسةُ حقوق ‏.‏ فمَضَرَّةُ هذا النوع بحسب درجاته في التحريم ‏.‏

وأما الضار طبعاً ، فنوعان أيضاً ‏:‏ نوعٌ ضار بكيفيته كما تقدَّم ، ونوعٌ ضار بكميته كالإكثار منه ، فإنه يُسقط القُوَّة ، ويُضر بالعصب ، ويُحدث الرِّعشةَ ، والفالج ، والتشنج ، ويُضعف البصر وسائرَ القُوَى ، ويُطفئُ الحرارةَ الغريزية ، ويُوسع المجارىَ ، ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية ‏.‏

وأنفعُ أوقاته ، ما كان بعد انهضام الغذاء في المَعِدَة وفى زمانٍ معتدلٍ لا على جوع ، فإنه يُضعف الحار الغريزى ، ولا على شبع ، فإنه يُوجب أمراضاً شديدةً ، ولا على تعب ، ولا إثْرَ حمَّام ، ولا استفراغٍ ، ولا انفعالٍ نفسانى كالغمِّ والهمِّ والحزنِ وشدةِ الفرح ‏.‏

وأجودُ أوقاته بعد هَزِيع من الليل إذا صادف انهضامَ الطعام ، ثم يغتسل أو يتوضأ ، وينامُ عليه ، وينامُ عقبه ، فَتَراجَعُ إليه قواه ، وليحذرِ الحركة والرياضة عقبه ، فإنها مضرة جداً ‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في عِلاج العشق

هذا مرضٌ من أمراض القلب ، مخالفٌ لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعِلاجه ، وإذا تمكَّنَ واستحكم ، عزَّ على الأطباء دواؤه ، وأعيا العليلَ داؤُه ، وإنَّما حكاه اللهُ سبحانه في كتابه عن طائفتين من الناس ‏:‏ من النِّسَاء ، وعشاقِ الصبيان المُرْدان ، فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسفَ ، وحكاه عن قوم لوط ، فقال تعالى إخباراً عنهم لـمَّا جاءت الملائكةُ لوطاً ‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إنَّ هَؤُلآءِ ضيفىَ فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِى إن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر ‏:‏ 68-73‏]‏ ‏.‏

وأمَّا ما زعمه بعضُ مَن لم يقدرسولَ الله صلى الله عليه وسلم حقَّ قدره أنه ابتُلِىَ به في شأن زينب بنت جَحْش ، وأنه رآها فقال ‏:‏ ‏(‏سُبحانَ مُقَلِّبِ القُلُوبِ‏)‏ ‏.‏ وأخذتْ بقلبه ، وجعل يقول لزيد بن حارثةَ ‏:‏ ‏(‏أمْسِكْها‏)‏ حتى أنزل الله عليه ‏:‏ ‏{‏وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى في نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب ‏:‏ 37‏]‏ ، فظنَّ هذا الزاعمُ أنَّ ذلك في شأن العشق ، وصنَّف بعضهم كتاباً في العشق ، وذكر فيه عشق الأنبياء ، وذكر هذه الواقعة ، وهذا من جهلِ هذا القائل بالقرآن وبالرُّسُل ، وتحمِيلهِ كلامَ الله ما لا يحتمِلُه ، ونسبتِه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى ما برَّأَه الله منه ، فإنَّ زينبَ بنت جحش كانت تحتَ زيدِ بن حارثةَ ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد تبنَّاه ، وكان يُدعى ‏(‏زيد بن محمد‏)‏ ، وكانت زينبُ فيها شَممٌ وترفُّع عليه ، فشاور رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في طلاقها ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أَمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ الله‏)‏ ، وأخفى في نفسه أن يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد ، وكان يخشى من قالةِ الناس أنه تزوَّج امرأة ابنه ، لأن زيداً كان يُدعى ابنَه ، فهذا هو الذي أخفاه في نفسه ، وهذه هي الخشية من الناس التي وقعت له ، ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يُعَدِّدُ فيها نعمه عليه لا يُعاتبه فيها ، وأعلمه أنه لا ينبغى له أن يخشى الناسَ فيما أحلَّ الله له ، وأنَّ اللهَ أحق أن يخشاه ، فلا يتحرَّج ما أحَلَّه له لأجل قول الناس ، ثم أخبره أنه سبحانه زوَّجه إيَّاها بعد قضاء زيدٌ وطرَه منها لتقتدىَ أُمَّتُه به في ذلك ، ويتزوج الرجل بامرأةِ ابنه من التبنِّى ، لا امرأةِ ابنه لِصُلبه ، ولهذا قال في آية التحريم ‏:‏ ‏{‏وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء ‏:‏23‏]‏ ، وقال في هذه السورة ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب ‏:‏ 40‏]‏ ، وقال في أولها ‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب ‏:‏ 4‏]‏ ، فتأمَّلْ هذا الذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودَفْع طعنِ الطاعنين عنه ، وبالله التوفيق ‏.‏

نعم ‏.‏‏.‏ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ نساءه ، وكان أحبَّهن إليه عائشةُ رضى الله عنها ، ولم تكن تبلُغُ محبتُه لها ولا لأحد سِوَى ربه نهايةَ الحب ، بل صح أنه قال ‏:‏ ‏(‏لو كنتُ مُتَّخِذاً من أهل الأرض خليلاً لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلاً‏)‏ ، وفى لفظ ‏:‏ ‏(‏وإنَّ صَاحِبَكُم خَلِيلُ الرَّحْمَن‏)‏ ‏.‏

فصل

وعشقُ الصُّوَر إنما تُبتلى به القلوبُ الفارغة مِن محبة الله تعالى ، المُعْرِضةُ عنه ، المتعوِّضةُ بغيره عنه ، فإذا امتلأَ القلبُ من محبة الله والشوق إلى لقائه ، دفَع ذلك عنه مرضَ عشق الصور ، ولهذا قال تعالى في حقِّ يوسف ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف ‏:‏ 24‏]‏ ، فدلَّ على أن الإخلاص سببٌ لدفع العشق وما يترتَّبُ عليه من السوء والفحشاء التي هي ثمرتُه ونتيجتُه ، فصرفُ المسبب صرفٌ لسببه ، ولهذا قال بعضُ السَّلَف ‏:‏ العشقُ حركة قلب فارغ ، يعنى فارغاً مما سوى معشوقه ‏.‏ قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً‏}‏ ‏[‏القصص ‏:‏ 11‏]‏، إن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ أى ‏:‏ فارغاً من كل شىء إلا من موسى لفرطِ محبتها له ، وتعلُّقِ قلبها به

والعشق مُرَكَّب من أمرين ‏:‏ استحسانٍ للمعشوق ، وطمع في الوصول إليه ، فمتى انتفى أحدهُما انتفى العشقُ ، وقد أعيتْ عِلَّةُ العشق على كثير من العقلاء ، وتكلم فيها بعضهم بكلام يُرغَب عن ذكره إلى الصواب ‏.‏

فنقول ‏:‏ قد استقرت حكمة الله عَزَّ وجَلَّ في خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه ، وانجذابِ الشىء إلى مُوافقه ومجانسه بالطبعِ ، وهُروبه من مخالفه ، ونُفرته عنه بالطبع ، فسِرُّ التمازج والاتصال في العالم العُلوى والسُّفلى ، إنما هو التناسبُ والتشاكلُ ، والتوافقُ ، وسِرُّ التباين والانفصال ، إنما هو بعدم التشاكل والتناسب ، وعلى ذلك قام الخلق والأمر ، فالمِثْلُ إلى مثلِه مائلٌ ، وإليه صائرٌ ، والضِّدُّ عن ضده هارب ، وعنه نافرٌ ، وقد قال تعالى ‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف ‏:‏ 189‏]‏، فجعل سُبحانه عِلَّةَ سكون الرَّجل إلى امرأته كونَها مِن جنسه وجوهره ، فعِلَّةُ السكون المذكور وهو الحب كونُها منه ، فدل على أن العِلَّة ليست بحُسن الصورة ، ولا الموافقة في القصد والإرادة ، ولا في الخلق والهُدَى ، وإن كانت هذه أيضاً من أسباب السكون والمحبة ‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏(‏الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدةٌ ، فما تَعارَفَ منها ائْتلَف ، وما تَناكَرَ منها اخْتَلَفَ‏)‏ ‏.‏ وفى ‏(‏مسند الإمام أحمد‏)‏ وغيره في سبب هذا الحديث ‏:‏ أنَّ امرأة بمكةَ كانت تُضِحكُ الناسَ ، فجاءت إلى المدينة ، فنزلتْ على امرأة تُضِحكُ الناسَ ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الأرواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديثَ ‏.‏

وقد استقرتْ شريعتُه سُبحانه أنَّ حُكم الشىء حُكْمُ مثله ، فلا تُفَرِّقُ شريعته بين متماثلين أبداً ، ولا تجمعُ بين مضادَّين ، ومَن ظنَّ خِلاف ذلك ، فإمَّا لِقلَّة علمه بالشريعة ، وإما لِتقصيره في معرفة التماثُل والاختلاف ، وإمَّا لنسبته إلى شريعته ما لم يُنزلْ به سلطاناً ، بل يكونُ من آراء الرجال ، فبحكمتِه وعدلِه ظهر خَلقُه وشرعُه ، وبالعدل والميزان قام الخلقُ والشرع ، وهو التسويةُ بين المتمائلَيْن ، والتفريق بين المختلفَيْن ‏.‏

وهذا كما أنه ثابت في الدنيا ، فهو كذلك يومَ القيامة ‏.‏ قال تعالى ‏:‏ ‏{‏احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصافات ‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه وبعدَه الإمامُ أحمد رحمه الله ‏:‏ أزواجهم أشباهُهم ونُظراؤهم ‏.‏

وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير ‏:‏ 7‏]‏ أى ‏:‏ قُرِن كلُّ صاحب عملٍ بشكله ونظيره ، فقُرِن بين المتحابِّين في الله في الجَنَّة ، وقُرِن بين المتحابِّين في طاعة الشيطان في الجحيم ، فالمرءُ مع مَن أَحَبَّ شاء أو أبَى ، وفى ‏(‏مستدرك الحاكم‏)‏ وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يُحِبُّ المَرءُ قَوْماً إلاَّ حُشِرَ مَعَهُم‏)‏ ‏.‏

والمحبة أنواع متعددة ؛ فأفضلها وأجلُّها ‏:‏ المحبةُ في الله ولله ؛ وهى تستلزِمُ محبةَ ما أحبَّ اللهُ ، وتستلزِمُ محبةَ الله ورسوله ‏.‏

ومنها ‏:‏ محبة الاتفاق في طريقةٍ ، أو دين ، أو مذهب ، أو نِحْلة ، أو قرابة ، أو صناعة ، أو مرادٍ ما ‏.‏

ومنها ‏:‏ محبةٌ لنَيْل غرض من المحبوب ، إمَّا مِن جاهه أو من ماله أو مِن تعليمه وإرشاده ، أو قضاء وطر منه ، وهذه هي المحبة العَرَضية التي تزول بزوال مُوجِبها ، فإنَّ مَن وَدَّك لأمر ، ولَّى عنك عند انقضائه ‏.‏

وأمَّا محبةُ المشاكلة والمناسبة التي بين المحب والمحبوب ، فمحبةٌ لازمة لا تزولُ إلا لعارض يُزيلها ، ومحبةُ العشق مِن هذا النوع ، فإنها استحسانٌ روحانى ، وامتزاج نفسانى ، ولا يَعرِض في شىء من أنواع المحبةِ من الوَسْواس والنُّحول ، وشَغْلِ البال ، والتلفِ ما يعرضُ مِن العشق ‏.‏

فإن قيل ‏:‏ فإذا كان سببُ العشق ما ذكرتم من الاتصال والتناسب الروحانى ، فما بالُه لا يكون دائماً مِنَ الطرَفين ، بل تجدُه كثيراً من طرف العاشق وحده ، فلو كان سببُه الاتصالَ النفسى والامتزاجَ الروحانى ، لكانت المحبةُ مشتركة بينهما ‏.‏

فالجواب ‏:‏ أنَّ السبب قد يتخلَّفُ عنه مسبِّبه لفوات شرط ، أو لوجود مانع ، وتخلُّف المحبة من الجانب الآخر لا بد أن يكون لأحد ثلاثة أسباب ‏:‏

الأول ‏:‏ عِلَّةٌ في المحبة ، وأنها محبة عَرَضية لا ذاتية ، ولا يجب الاشتراكُ في المحبة العَرَضية ، بل قد يلزمها نُفرةٌ من المحبوب ‏.‏

الثانى ‏:‏ مانعٌ يقوم بالمحِب يمنع محبة محبوبه له ، إما في خُلُقه ، أو خَلْقِهِ أو هَدْيه أو فعله ، أو هيئته أو غير ذلك ‏.‏

الثالث‏:‏ مانعٌ يقوم بالمحبوب يمنعُ مشاركته للمحبِ في محبته ، ولولا ذلك المانعُ ، لقام به من المحبة لمحبه مثلَ ما قام بالآخر ، فإذا انتفتْ هذه الموانعُ ، وكانت المحبة ذاتيةً ، فلا يكون قَطُّ إلا من الجانبين ، ولولا مانعُ الكِبْر والحسد ، والرياسة والمعاداة في الكفار ، لكانت الرُّسُلُ أحبَّ إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، ولما زال هذا المانعُ من قلوب أتباعهم ، كانت محبتُهم لهم فوقَ محبة الأنفس والأهل والمال ‏.‏

فصل

والمقصود ‏:‏ أنَّ العشق لما كان مرضاً مِن الأمراض ، كان قابلاً للعلاج ، وله أنواع مِن العِلاج ، فإن كان مما للعاشق سبيلٌ إلى وصل محبوبه شرعاً وقدْراً ، فهو علاجه ، كما ثبت في

‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث ابن مسعود رضى الله عنه ، قال ‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا معشر الشَّبَاب ؛ مَن استطاع منكم الباءةَ فلْيتزوَّج ، ومَن لم يستطِعْ فعليه بالصَّوْم ، فإنَّه له وِجَاءٌ‏)‏ ‏.‏ فدَل المحبَّ على علاجين ‏:‏ أصلىٍّ ، وبدلىٍّ ‏.‏ وأمره بالأصلى ، وهو العلاج الذي وُضع لهذا الداء ، فلا ينبغى العدولُ عنه إلى غيره ما وَجد إليه سبيلاً ‏.‏

وروى ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ عن ابن عباس رضى الله عنهما ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏(‏لَمْ نَرَ للمُتحابَّيْنِ مِثْلَ النِّكاح‏)‏ ‏.‏ وهذا هو المعنى الذي أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرِهن وإمائهن عند الحاجة بقوله ‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفاً‏}‏ ‏[‏النساء ‏:‏ 28‏]‏ فذكرُ تخفيفِه في هذا الموضع ، وإخبارُه عن ضعف الإنسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة ، وأنه سبحانه خفَّف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النساء مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ ، وأباح له ما شاء مما ملكتْ يمينُه ، ثم أباح له أن يتزوَّج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجاً لهذه الشهوة ، وتخفيفاً عن هذا الخُلق الضعيف ، ورحمةً به ‏.‏

فصل

وإن كان لا سبيلَ للعاشق إلى وِصال معشوقه قدْراً أو شرعاً ، أو هو ممتنع عليهِ من الجهتين ، وهو الداء العُضال ، فمِن علاجه ، إشعارُ نفسه اليأسَ منه ، فإنَّ النفسَ متى يئستْ من الشىء ، استراحت منه ، ولم تلتفت إليه ، فإن لم يَزلْ مرضُ العشق مع اليأس ، فقد انحرف الطبعُ انحرافاً شديداً ، فينتقل إلى عِلاج آخرَ ، وهو علاجُ عقله بأن يعلم بأنَّ تعلُّق القلب بما لا مطمع في حصوله نوعٌ من الجنون ، وصاحبه بمنزلة مَن يعشق الشمس ، وروحُه متعلقة بالصعود إليها والدَّوَرانِ معها في فلكها ، وهذا معدودٌ عند جميع العقلاء في زُمرة المجانين ‏.‏

وإن كان الوِصال متعذراً شرعاً لا قدراً ، فعِلاجُه بأن يُنزله منزلة المتعذر قدراً ، إذ ما لم يأذن فيه الله ، فعِلاجُ العبد ونجاتُه موقوف على اجتنابه ، فليُشعرْ نفسَه أنه معدوم ممتنع لا سبيلَ له إليه ، وأنه بمنزلة سائر المحالات ، فإن لم تُجبْه النَّفْسُ الأمَّارة ، فليتركْه لأحد أمرين ‏:‏ إما خشية ، وإما فواتِ محبوب هو أحبُّ إليه ، وأنفع له ، وخير له منه ، وأدْوَمُ لَذَّةً وسروراً ، فإن العاقل متى وازَنَ بين نَيْل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظمَ منه ، وأدومَ ، وأنفعَ ، وألذَّ أو بالعكس ، ظهر له التفاوتُ ، فلا تبعْ لَذَّة الأبد التي لا خطرَ لها بلذَّة ساعة تنقلبُ آلاماً ، وحقيقتُها أنها أحلامُ نائم ، أو خيالٌ لا ثبات له ، فتذهبُ اللَّذة ، وتبقى التبعةُ ، وتزولَ الشهوة ، وتبقَى الشِّقوة ‏.‏

الثانى ‏:‏ حصولُ مكروه أشقَّ عليه مِن فوات هذا المحبوب ، بل يجتمع له الأمران ، أعنى ‏:‏ فوات ما هُو أحبُّ إليه من هذا المحبوب ، وحصولُ ما هو أكرهُ إليه من فوات هذا المحبوب ، فإذا تيقَّن أنَّ في إعطاء النفسِ حظَّها من هذا المحبوب هذين الأمرين ، هان عليه تركُه ، ورأى أنَّ صبره على فوته أسهلُ من صبره عليهما بكثير ، فعقلُه ودينه ، ومروءته وإنسانيته ، تأمُره باحتمال الضرر اليسير الذي ينقلِبُ سريعاً لذَّةً وسروراً وفرحاً لدفع هذين الضررين العظيمين ‏.‏ وجَهلُه وهواه ، وظلمه وطيشه ، وخفته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه جالباً عليه ما جلب ، والمعصومُ مَن عصمه الله ‏.‏

فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء ، ولم تُطاوعه لهذه المعالجة ، فلينظر ما تجلبُ عليه هذه الشهوةُ مِن مفاسد عاجِلته ، وما تمنعه مِن مصالحها ، فإنها أجلبُ شىء لمفاسد الدنيا ، وأعظمُ شىء تعطيلاً لمصالحها ، فإنها تحول بين العبد وبين رُشده الذي هو مِلاكُ أمره ، وقِوامُ مصالحه ‏.‏

فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء ، فليتذكر قبائحَ المحبوب ، وما يدعوه إلى النُّفرة عنه ، فإنه إن طلبها وتأملها ، وجدها أضعافَ محاسنه التي تدعو إلى حبه ، وليسأل جيرانَه عما خفى عليه منها ، فإنَّ المحاسن كما هي داعيةُ الحبِّ والإرادة ، فالمساوئ داعيةُ البغضِ والنُّفرة ، فليوازن بين الداعيَيْن ، وليُحبَّ أسبَقهما وأقرَبَهما منه باباً ، ولا يكن ممن غَرَّه لونُ جمال على جسم أبرصَ مجذوم وليُجاوِزْ بصره حُسنَ الصورة إلى قبح الفعل ، ولْيَعبُرْ مِن حُسن المنظر والجسم إلى قبح المخبر والقلب ‏.‏

فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صِدقُ اللجأ إلى مَن يُجيب المضطَر إذا دعاه ، وليطرح نفسه بين يديه على بابه ، مستغيثاً به ، متضرعاً ، متذللاً ، مستكيناً ، فمتى وُفِّقَ لذلك ، فقد قرع باب التوفيق ، فليَعِفَّ وليكتُم ، ولا يُشَبِّبْ بذكر المحبوب ، ولا يفضحْه بين الناس ويُعرِّضه للأذى ، فإنه يكون ظالماً متعدياً ‏.‏

ولا يغترَّ بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه سُويد بن سعيد ، عن علىّ بن مُسْهرٍ ، عن أبى يحيى القَتَّات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضى الله عنهما ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، ورواه عن أبى مسهر أيضاً ، عن هشام بن عروةَ ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، ورواه الزُّبَيْر بن بَكَّار ، عن عبد الملك ابن عبد العزيز بن الماجِشُون ، عن عبد العزيز بن أبى حازم ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضى الله عنهما ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏(‏مَنْ عَشِقَ ، فعَفَّ ، فماتَ فهو شهيدٌ‏)‏ وفى رواية ‏:‏ ‏(‏مَنْ عَشِقَ وكتم وعفَّ وصبرَ ، غفر اللهُ لَهُ ، وأدخَلَهُ الجنَّة‏)‏ ‏.‏

فإنَّ هذا الحديثَ لا يصِحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز أن يكونَ من كلامه ، فإنَّ الشهادة درجةٌ عالية عند الله ، مقرونةٌ بدرجة الصِّدِّيقية ، ولها أعمال وأحوال ، هي شرط في حُصُولها ، وهى نوعان ‏:‏ عامةٌ وخاصةٌ ‏.‏

فالخاصة ‏:‏ الشهادةُ في سبيل الله ‏.‏

والعامةُ خمسٌ مذكورة في ‏(‏الصحيح‏)‏ ليس العشقُ واحداً منها ‏.‏ وكيف يكون العشقُ الذي هو شِرْكٌ في المحبة ، وفراغُ القلب عن الله ، وتمليكُ القلب والروح ، والحب لغيره تُنال به درجةُ الشهادة ، هذا من المحال ، فإنَّ إفساد عشق الصور للقلب فوقَ كل إفساد ، بل هو خمرُ الروح الذي يُسكرها ، ويصدُّها عن ذكر الله وحبِّه ، والتلذذِ بمناجاته ، والأنسِ به ، ويُوجب عبودية القلب لغيره ، فإنَّ قلبَ العاشق مُتَعبِّدٌ لمعشوقه ، بل العشقُ لُبُّ العبودية ، فإنها كمال الذل ، والحب والخضوع والتعظيم ، فكيف يكون تعبُّد القلب لغير الله مما تُنال به درجةُ أفاضل الموحِّدين وساداتهم ، وخواص الأولياء ، فلو كان إسنادُ هذا الحديث كالشمسِ ، كان غلطاً ووهماً ، ولا يُحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظُ العشق في حديث صحيح ألبتة ‏.‏

ثم إنَّ العشق منه حلالٌ ، ومنه حرامٌ ، فكيف يُظَن بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه يحكم على كُلِّ عاشقٍ يكتُم ويَعِفُّ بأنه شهيد ، فترَى مَن يعشق امرأةَ غيره ، أو يعشق المُرْدانَ والبغَايا ، يَنال بعشقه درجةَ الشهداء ، وهل هذا إلا خلافُ المعلوم من دينه صلى الله عليه وسلم بالضرورة ‏؟‏ كيف والعشقُ مرض من الأمراض التي جعل اللهُ سبحانه لها الأدويةَ شرعاً وقدراً ، والتداوى منه إما واجب إن كان عشقاً حراماً ، وإما مُسْتَحَب

وأنت إذا تأملت الأمراضَ والآفاتِ التي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابها بالشهادة ، وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها ، كالمطعون ، والمَبْطُون ، والمجنون ، والحريقِ ، والغرِيقِ ، وموتِ المرأة يقتُلها ولدُها في بطنها ، فإنَّ هذه بلايَا من الله لا صُنع للعبد فيها ، ولا عِلاجَ لها ، وليست أسبابُها محرَّمة ، ولا يترتب عليها مِن فساد القلب وتعبُّده لغير الله ما يترتب على العشق ، فإن لم يكفِ هذا في إبطال نسبة هذا الحديثِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلِّدْ أئمةَ الحديث العالمين به وبعلله ، فإنه لا يُحفظ عن إمام واحد منهم قَطُّ أنه شهد له بصحة ، بل ولا بحُسن ، كيف وقد أنكروا على سُويدٍ هذا الحديث ، ورموه لأجله بالعظائم ، واستحلَّ بعضُهم غزوَه لأجله ‏.‏ قال أبو أحمد بن عَدِىٍّ في ‏(‏كامله‏)‏‏:‏ هذا الحديث أحدُ ما أُنكر على سُويد ، وكذلك قال البَيْهقى ‏:‏ إنه مما أُنكر عليه ، وكذلك قال ابن طاهر في ‏(‏الذخيرة‏)‏ وذكره الحاكم في ‏(‏تاريخ نيسابور‏)‏ ، وقال ‏:‏ أنا أتعجب من هذا الحديث ، فإنه لم يحدَّث به عن غير سُويد ، وهو ثقة ، وذكره أبو الفرج بن الجوزى في كتاب ‏(‏الموضوعات‏)‏ ، وكان أبو بكر الأزرقُ يرفعه أوَّلاً عن سُويد ، فعُوتب فيه ، فأسقط النبىَّ صلى الله عليه وسلم وكان لا يُجاوِزُ به ابنَ عباس رضى الله عنهما ‏.‏

ومن المصائب التي لا تُحتمل جعلُ هذا الحديث من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضى الله عنها ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ‏.‏ ومَن له أدنى إلمام بالحديث وعلله ، لا يحتمِلُ هذا البتة ، ولا يحتمِلُ أن يكونَ من حديث الماجشون ، عن ابن أبى حازم ، عن ابن أبى نَجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعاً ، وفى صحته موقوفاً على ابن عباس نظرٌ ، وقد رمى الناسُ سويدَ بن سعيد راوىَ هذا الحديث بالعظائم ، وأنكره عليه يحيى بن مَعِين وقال ‏:‏ هو ساقط كذَّاب ، لو كان لى فرس ورمح كنت أغزوه ، وقال الإمام أحمد ‏:‏ متروك الحديث ‏.‏ وقال النسائى ‏:‏ ليس بثقة ، وقال البخارى ‏:‏ كان قد عمىَ فيلقن ما ليس من حديثه ، وقال ابن حِبَّان ‏:‏ يأتى بالمعضلات عن الثقات يجبُ مجانبةُ ما روى ‏.‏‏.‏ انتهى ‏.‏

وأحسنُ ما قيل فيه قولُ أبى حاتم الرازىِّ ‏:‏ إنه صدُوق كثير التَّدْليس ، ثم قولُ الدَّارَقُطنىِّ ‏:‏ هو ثقة غير أنه لما كَبِرَ كان ربما قُرئ عليه حديثٌ فيه بعضُ النكارة ، فيُجيزه ‏.‏‏.‏ انتهى ‏.‏

وعِيبَ على مسلم إخراجُ حديثه ، وهذه حالُه ، ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيرُه ، ولم ينفرِدْ به ، ولم يكن منكراً ولا شاذاً بخلاف هذا الحديث ‏.‏‏.‏ والله أعلم ‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في حفظ الصحة بالطيب

لما كانت الرائحةُ الطيبة غذاءَ الروح ، والروحُ مطيةُ القُوَى ، والقُوَى تزداد بالطيب ، وهو ينفعُ الدماغَ والقلب ، وسائر الأعضاء الباطنية ، ويُفرِّحُ القلب ، ويَسُرُّ النفس ويَبسُطُ الروحَ ، وهو أصدقُ شىء للروح ، وأشدُّه ملاءمةً لها ، وبينه وبين الروح الطيبة نِسبةٌ قريبة ‏.‏ كان أحدَ المحبوبَيْن من الدنيا إلى أطيب الطَيِّبين صلوات الله عليه وسلامه ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح البخارى ‏)‏ ‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يَرُدُّ الطِّيبَ ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ عنه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من عُرِضَ عليه رَيْحانٌ ، فلا يَرُدَّهُ فإنه طَيِّبُ الرِّيح ، خَفِيفُ المَحْمِلِ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سنن أبى داود‏)‏ و‏(‏النسائي‏)‏ ، عن أبى هريرةَ رضى الله عنه ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مَن عُرِضَ عَلَيهِ طِيبٌ ، فَلا يَرُدَّهُ ، فَإنَّهُ خَفِيفُ المَحْمِلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏مسند البزَّار‏)‏ ‏:‏ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏(‏ إنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ ، جَوادٌ يُحِبُّ الجُودَ ، فَنَظِّفُوا أفْنَاءَكُم وسَاحَاتِكُم ، ولا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ يَجْمَعُون الأكُبَّ في دُورِهِمْ‏)‏‏.‏ الأكُب ‏:‏ الزبالة ‏.‏

وذكر ابن أبى شيبة ، أنه صلى الله عليه وسلم كان لَهُ سُكَّةٌ يَتَطَيَّب منها ‏.‏

وصَحَّ عنه أنه قال ‏:‏ ‏(‏إنَّ للهِ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ في كُلِّ سَبْعَةِ أيَّامٍ ، وَإنْ كَانَ لَهُ طِيبٌ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ‏)‏‏.‏

وفى الطيب من الخاصية ، أنَّ الملائكة تُحبه ، والشياطين تنفِرُ عنه ، وأحبُّ شيءٍ إلى الشياطين الرائحةُ المنتنة الكريهة ، فالأرواحُ الطيبة تُحِبُّ الرائحة الطيبة ، والأرواحُ الخبيثة تُحِبُّ الرائحة الخبيثة ، وكل روح تميل إلى ما يناسبها ، فالخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، والطيباتُ للطيبين ، والطيبون للطيبات ، وهذا وإن كان في النساء والرجال ، فإنه يتناولُ الأعمالَ والأقوالَ ، والمطاعم والمشارب ، والملابس والروائح ، إما بعموم لفظه ، أو بعموم معناه ‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في حفظ صحة العَيْن

روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ عن عبد الرحمن بن النُّعمان بن معبد بن هَوْذَةَ الأنصارى ، عن أبيه ، عن جده رضى الله عنه ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بالإِثْمِدِ المُروَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ وقال ‏:‏ ‏(‏ليتَّقِهِ الصَّائِمُ‏)‏ ‏.‏ قال أبو عبيد ‏:‏ المروَّح ‏:‏ المطيَّب بالمسك ‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما قال ‏:‏ كانت للنبىِّ صلى الله عليه وسلم مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنها ثلاثاً في كُلِّ عَيْنٍ ‏.‏

وفى ‏(‏الترمذي‏)‏ ‏:‏ عن ابن عباس رضى الله عنهما ، قال ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اكتحَلَ يجعلُ في اليمنَى ثلاثاً ، يبتدىء بها ، ويختم بها ، وفى اليُسْرى ثنتين ‏.‏

وقد روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مَنْ اكْتَحَلَ فلْيُوتِرْ‏)‏ ‏.‏ فهل الوترُ بالنسبة إلى العينين كلتيهما ، فيكون في هذه ثلاث ، وفى هذه ثنتان ، واليُمنى أولى بالابتداء والتفضيل ، أو هو بالنسبة إلى كُلِّ عَيْن ، فيكون في هذه ثلاث ، وفى هذه ثلاث ، وهما قولان في مذهب أحمد وغيره‏.‏

وفى الكُحْلِ حفظ لصحة العَيْن ، وتقويةٌ للنور الباصر ، وجِلاءٌ لها ، وتلطيفٌ للمادة الرديئة ، واستخراجٌ لها مع الزينة في بعض أنواعه ، وله عند النوم مزيدُ فضل لاشتمالها على الكُحْلِ ، وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها ، وخدمةِ الطبيعة لها ، وللإثْمد مِن ذلك خاصيَّة ‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ عن سالم ، عن أبيه يرفعه ‏:‏ ‏(‏عَلَيْكُم بالإثْمِدِ ، فإنَّهُ يَجْلُو البَصَر ، ويُنْبِتُ الشَّعرَ‏)‏ ‏.‏

وفى كتاب أبى نُعيم ‏:‏ ‏(‏فإنه مَنْبَتَةٌ للشَّعر ، مذهبة للقذَى ، مصْفاة للبصر‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ أيضاً ‏:‏ عن ابن عباس رضى الله عنهما يرفعه ‏:‏ ‏(‏خيرُ أكْحالِكم الإثمد ، يجلُو البَصَرَ ، ويُنبت الشَّعرَ‏)‏ ‏.‏

فصل‏:‏ في ذكر شىء من الأدوية والأغذية المفردة التي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلم مرتبة على حروف المعجم

حرف الهمزة

إثْمِدٌ‏:‏

هو حجر الكحل الأسود، يُؤْتَى به من أصبِهانَ، وهو أفضلُه، ويؤتَى به من جهة المغرب أيضاً، وأجودُه السريعُ التفتيتِ الذي لفُتاته بصيصٌ، وداخلُه أملسُ ليس فيه شىء من الأوساخ‏.‏

ومزاجُه بارد يابس ينفعُ العين ويُقوِّيها، ويشد أعصابَها، ويحفظُ صِحتها، ويُذهب اللَّحم الزائد في القُروح ويُدملها، ويُنقِّى أوساخها، ويجلوها، ويُذهب الصداع إذا اكتُحل به مع العسل المائى الرقيق، وإذا دُقَّ وخُلِطَ ببعض الشحوم الطرية، ولُطخ على حرق النار، لم تعرض فيه خُشْكَرِيشةٌ، ونفع من التنفُّط الحادث بسببه، وهو أجود أكحال العين لا سِيَّما للمشايخ، والذين قد ضعفت أبصارُهم إذا جُعِلَ معه شىءٌ من المسك‏.‏

أُتْرُج‏:‏

ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن، كمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ، طعْمُها طَيِّبٌ، وريحُها طَيِّبٌ‏)‏‏.‏

وفى الأُترج منافع كثيرة، وهو مركَّب من أربعة أشياء‏:‏ قشر، ولحم، وحمض، وبزر، ولكل واحد منها مِزاج يخصُّه، فقشره حار يابس، ولحمُه حار رطب، وحمضُه بارد يابس، وبزرُه حار يابس‏.‏

ومن منافع قشره‏:‏ أنه إذا جُعل في الثياب منع السوسَ، ورائحتُهُ تُصْلِحُ فسادَ الهواء والوباء، ويُطيِّبُ النَّكْهَةَ إذا أمسكه في الفم، ويُحلِّل الرياح، وإذا جُعِلَ في الطعام كالأبازِير، أعان على الهضم‏.‏ قال صاحب ‏(‏القانون‏)‏‏:‏ وعُصَارة قشره تنفع مِن نهْش الأفاعى شرباً، وقِشرُه ضِمَادَاً، وحُرَاقةُ قِشره طِلاءٌ جيد للبَرَص‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

وأمَّا لحمه‏:‏ فملطِّف لحرارة المَعِدَة، نافعٌ لأصحاب المِرَّة الصفراء، قامِعٌ للبخارات الحارة‏.‏ وقال الغافِقىُّ‏:‏ أكل لحمه ينفع البواسير‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

وأمّا حمضُه‏:‏ فقابضٌ كاسر للصفراء، ومسكنٌ للخفقان الحار، نافعٌ من اليَرَقَان شرباً واكتحالاً، قاطعٌ للقىء الصفراوى، مُشَهٍّ للطعام، عاقل للطبيعة، نافع من الإسهال الصفراوى، وعُصَارَةُ حمضه يُسَكِّن غِلْمَةَ النساء، وينفع طِلاَءً من الكَلَفِ، ويُذهب بالقَوْباء، ويُستدَل على ذلك مِن فعله في الحِبر إذا وقَعَ في الثياب قَلَعَه، وله قوةٌ تُلطِّف، وتقطع، وتبرد، وتُطفئُ حرارة الكبد، وتُقوِّى المَعِدَة، وتمنع حِدَّة المِرَّة الصفراء، وتُزِيلُ الغمَّ العارض منها، وتسكن العطش‏.‏

وأمَّا بزره‏:‏ فله قوة محلِّلة مجففة‏.‏ وقال ابن ماسويه‏:‏ خاصية حَبِّه، النفع من السموم القاتلة إذا شُرِبَ منه وزنُ مثقال مقشَّراً بماء فاتر، وطِلاء مطبوخ‏.‏ وإن دُقَّ ووضع على موضع اللَّسعة، نفع، وهو مُلَيِّنٌ للطبيعة، مُطَيِّبٌ للنكْهة، وأكثر ُهذا الفعل موجودٌ في قشره‏.‏

وقال غيرُه‏:‏ خاصية حَبُّه النفع مِن لَسعات العقارب إذا شُرِبَ منه وزنُ مثقالين مقشراً بماء فاتر، وكذلك إذا دُقَّ ووُضِعَ على موضع اللَّدغة‏.‏

وقال غيره‏:‏ حَبُّه يصلُح للسُّموم كُلِّهَا، وهو نافع من لدغ الهوام كلها‏.‏

وذُكِرَ أنَّ بعض الأكاسرة غَضِبَ على قوم من الأطباء، فأمر بحبسهم، وخيَّرهم أُدماً لا يزيد لهم عليه، فاختارُوا الأترج، فقيل لهم‏:‏ لِمَ اخترتموه على غيره ‏؟‏ فقالوا‏:‏ لأنه في العاجل ريحانٌ، ومنظره مفرح، وقشرُه طيب الرائحة، ولحمه فاكهة، وحَمْضُه أُدم، وحبُّه تِرياق، وفيه دُهنٌ‏.‏

وحقيقٌ بشىء هذه منافعه أن يُشَبَّهَ به خلاصةُ الوجود، وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن، وكان بعضُ السَّلَف يُحِبُّ النظر إليه لما في منظره من التفريح‏.‏

أَرُزُّ‏:‏

فيه حديثان باطلان موضوعان على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؛ أحدهما ‏:‏ أنه ‏(‏لو كان رجلاً ، لكان حليماً‏)‏ ، الثانى ‏:‏ ‏(‏كُلُّ شىء أخرجتْه الأرضُ ففيه داءٌ وشفاءٌ إلا الأَرُزَّ ‏:‏ فإنه شفاءٌ لا داءَ فيه‏)‏ ذكرناهما تنبيهاً وتحذيراً من نسبتهما إليه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وبعد ‏.‏‏.‏ فهو حار يابس ، وهو أغْذَى الحُبوبِ بعد الحِنْطَة ، وأحمدُها خلطاً ، يَشدُّ البطن شدّاً يسيراً ، ويُقَوِّى المَعِدَة ، ويَدبغُها ، ويمكثُ فيها ‏.‏ وأطباءُ الهند تزعم أنه أحمدُ الأغذية وأنفعُها إذا طُبِخَ بألبان البقر ، وله تأثيرٌ في خِصب البدن ، وزيادةِ المَنِىّ ، وكثرةِ التغذية ، وتصفيةِ اللون ‏.‏

أَرْزٌ بفتح الهمزة وسكون الراء‏:‏

وهو الصَّنَوْبَر‏.‏ ذكره النبىُّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏(‏مَثَلُ المُؤمِنِ مَثَلُ الخامَةِ من الزرع، تُفيئُها الرِّياحُ، تُقيمُهَا مَرَّةً، وتُميلُهَا أُخْرى، ومَثَلُ المُنَافِقِ مَثَلُ الأَرْزَةِ لا تَزَالُ قائمةً على أصْلِها حتى يكونَ انْجِعَافُها مَرَّةً واحدةً‏)‏‏.‏

وَحَبُّه حار رطب، وفيه إنضاجٌ وتليين، وتحليل، ولذعٌ يَذهب بنقعه في الماء، وهو عَسِرُ الهضم، وفيه تغذيةٌ كثيرةٌ، وهو جيدٌ للسُّعال، ولتنقيةِ رطوبات الرِّئة، ويَزِيدُ في المَنِىِّ، ويُولِدُ مغصاً، وتِرْيَاقُه حَبُّ الرُّمان المُزِّ‏.‏

إذْخِرٌ‏:‏

ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مكةَ‏:‏ ‏(‏لا يُختَلَى خَلاَها‏)‏، قال له العباس رضى الله عنه‏:‏ إلا الإذْخِرَ يا رسولَ اللهِ؛ فإنه لِقَيْنِهم ولبيوتِهِم، فقال‏:‏ ‏(‏إلا الإذْخِرَ‏)‏‏.‏

والإذْخِرُ حارٌ في الثانية، يابسٌ في الأُولى، لطيف مفتح للسُّددِ، وأفواه العروقُ، يُدرُّ البَوْل والطَّمْث، ويُفَتِّتُ الحصى، ويُحلِّل الأورام الصلبة في المَعِدَة والكَبِد والكُلْيَتين شرباً وضِماداً، وأصلُه يُقوِّى عمودَ الأسنان والمَعِدَة، ويسكن الغَثَيان، ويَعْقِلُ البطن‏.‏

حرف الباء

بِطِّيخٌ‏:‏

روى أبو داود والترمذىُّ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأكل البِطيخَ بالرُّطَبِ، يقول‏:‏ ‏(‏نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا ببَرْدِ هذا، وبَرْدَ هَذا بِحَرِّ هذا‏)‏‏.‏

وفى البِطِّيخ عدةُ أحاديث لا يَصِحُّ منها شىء غيرُ هذا الحديث الواحد، والمرادُ به الأخضر، وهو باردٌ رطب، وفيه جِلاءٌ، وهو أسرعُ انحداراً عن المَعِدَة من القِثَّاء والخيار، وهو سريعُ الاستحالة إلى أى خلط كان صادفه في المَعِدَة، وإذا كان آكَلُهُ مَحْرُوراً انتفع به جداً، وإن كان مَبْروداً دفع ضررُه بيسير من الزَّنْجَبيل ونحوه، وينبغى أكلُه قبل الطعام، ويُتْبَعُ به، وإلاّ غَثَّى وقيَّأَ‏.‏ وقال بعض الأطباء‏:‏ إنه قبل الطعام يَغسلُ البطن غسلاً، ويُذهب بالداء أصلاً‏.‏

بَلَحٌ‏:‏

روى النسائى وابن ماجه في ‏(‏سننهما‏)‏‏:‏ من حديث هشام ابن عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ رضى الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ كُلُوا البلحَ بالتَّمْرِ، فإنَّ الشيطانَ إذا نظرَ إلى ابنِ آدمَ يأكُلُ البَلَحَ بالتمْرِ يقولُ‏:‏ بَقِىَ ابنُ آدمَ حتى أكَلَ الحَديثَ بالعَتِيق ‏)‏‏.‏

وفى رواية‏:‏ ‏(‏كُلُوا البَلَحَ بالتَّمَرِ، فإنَّ الشَّيْطانَ يحزَنُ إذا رأى ابنَ آدمَ يأكُلُهُ يقولُ‏:‏ عاشَ ابنُ آدمَ حتى أكل الجَديدَ بالخَلَقِ‏)‏ رواه البزار في ‏(‏مسنده‏)‏، وهذا لفظه‏.‏

قلت‏:‏ الباءُ في الحديث بمعنى ‏(‏ مع ‏)‏؛ أى‏:‏ كُلُوا هذا معَ هذا‏.‏ قال بعض أطباء الإسلام‏:‏ إنَّما أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم بأكل البلح بالتمر، ولم يأمُرْ بأكل البُسْر مع التمر، لأن البلحَ بارد يابس، والتمرَ حار رطب، ففى كُلٍّ منهما إصلاحٌ للآخر، وليس كذلك البُسْر مع التَّمْرِ، فإنَّ كُلَّ واحد منهما حارٌ، وإن كانت حرارةُ التمر أكثر، ولا ينبغى من جهة الطِّبِّ الجمعُ بين حارَّين أو باردَين، كما تقدَّم‏.‏

وفى هذا الحديث‏:‏ التنبيهُ على صحةِ أصل صناعة الطب، ومراعاةِ التدبير الذي يصلُح في دفع كيفيات الأغذية والأدوية بعضِها ببعض، ومراعاةِ القانون الطبى الذي تُحفظ به الصحة‏.‏

وفى البلح برودةٌ ويبوسةٌ، وهو ينفع الفمَ واللِّثَة والمَعِدَة، وهو ردىءٌ للصدر والرِّئة بالخشونة التي فيه، بطىءٌ في المَعِدَة يسيرُ التغذية، وهو للنخلة كالحِصْرِم لشجرة العنب، وهما جميعاً يُولِّدان رياحاً، وقَرَاقِرَ، ونفخاً، ولا سِيَّما إذا شُرب عليهما الماء، ودفعُ مضرتهما بالتَّمْر، أو بالعسل والزُّبد‏.‏

بُسْرٌ‏:‏

ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ أنَّ أبا الهيثم بن التَّيْهان، لما ضافه النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضى الله عنهما، جاءهم بِعذْقٍ وهو من النخلة كالعُنُقودِ من العنب فقال له‏:‏ ‏(‏هلاَّ انتقَيْتَ لنا من رُطَبهِ‏)‏ فقال‏:‏ أحببتُ أنْ تَنْتَقُوا من بُسْرِهِ ورُطَبِهِ‏.‏

البُسْر‏:‏ حار يابس، ويُبسه أكثرُ من حرِّه، يُنشِّفُ الرطوبةَ، ويَدْبَغُ المعدة، وَيحبِسُ البطن، وينفع اللِّثة والفم، وأنفعه ما كان هشَّاً وحُلواً، وكثرةُ أكله وأكل البَلح يُحدث السَّدد في الأحشاء‏.‏

بَيْضٌ‏:‏

ذكر البيهقى في ‏(‏شُعَبِ الإيمان‏)‏ أثراً مرفوعاً‏:‏ أنَّ نبياً من الأنبياء شكى إلى الله سبحانه الضعفَ، فأمره بأكل البيض‏.‏ وفى ثبوته نظرٌ‏.‏

يُختار من البيض الحديثُ على العتيق، وبيضُ الدَّجاج على سائر بيض الطير، وهو معتدل يميل إلى البرودة قليلاً‏.‏

قال صاحب ‏(‏القانون‏)‏‏:‏ ومُحُّهُ‏:‏ حار رطب، يُولِّد دماً صحيحاً محموداً، ويُغذى غذاءً يسيراً، ويُسرعُ الانحدارَ من المعدة إذا كان رِخواً‏.‏

وقال غيره‏:‏ مُحُّ البيض‏:‏ مسكن للألم، مملسٌ للحلق وقصبة الرئة، نافع للحلق والسُّعال وقُروح الرئة والكُلَى والمثانة، مذهِبٌ للخشونة، لا سِيَّما إذا أُخِذَ بدُهن اللَّوز الحلو، ومنضجٌ لما في الصدر، ملين له، مسهل لخشونة الحلق، وبياضه إذا قُطِرَ في العين الوارمة ورماً حاراً، برَّده، وسكَّن الوجع، وإذا لُطخ به حرقُ النار أو ما يعرض له، لم يدَعه يتنفَّط، وإذا لُطخ به الوجع، منع الاحتراق العارض من الشمس، وإذا خُلِطَ بالكُنْدُر، ولُطخ على الجبهة، نفع من النزلة‏.‏

وذكره صاحب ‏(‏القانون‏)‏ في الأدوية القلبية، ثم قال‏:‏ وهو وإن لم يكن من الأدوية المطلقة فإنه مما له مدخل في تقوية القلب جداً، أعنى الصفرةَ، وهى تجمع ثلاثة معان‏:‏ سرعة الاستحالة إلى الدم، وقِلَّة الفضلة، وكون الدم المتولِّد منه مجانساً للدم الذي يغذو القلبَ خفيفاً مندفعاً إليه بسرعة، ولذلك هو أوفقُ ما يُتلافى به عاديةُ الأمراض المحلِّلة لجوهر الروح‏.‏

بَصَلٌ‏:‏

روى أبو داودَ في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ عن عائشةَ رضى الله عنها، أنها سُئِلَتْ عن البصل، فقالت‏:‏ ‏(‏إنَّ آخرَ طعام أكلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان فيه بَصَلٌ‏)‏‏.‏

وثبت عنه في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ ‏(‏أنه منع آكِلَه من دُخُولِ المَسْجِدِ‏)‏‏.‏

والبصل‏:‏ حار في الثالثة، وفيه رطوبة فَضليَّة ينفعُ من تغير المياه، ويدفعُ ريحَ السموم، ويفتِّق الشهوة، ويقوِّى المَعِدَة، ويُهَيج الباه، ويزيد في المَنِىِّ، ويُحسِّن اللَّون، ويقطع البلغم، ويجلُو المَعِدَة، وبِزره يُذهب البَهَق، ويدلَّك به حول داء الثعلب، فينفع جداً، وهو بالملح يقلع الثآلِيل، وإذا شَمَّهُ مَن شَرِب دواءً مسهلاً منعه من القىء والغثيان وأذهب رائحة ذلك الدواء، وإذا استُعِطَ بمائه، نَقَّى الرأس، ويُقطَّر في الأُذن لثقَل السمع والطَّنين والقيح، والماء الحادث في الأُذنين، وينفع في الماء النازل في العينين اكتحالاً يُكتَحَل ببزره مع العسل لبياض العين، والمطبوخ منه كثيرُ الغذاء ينفع مِن اليَرَقانِ والسُّعال، وخشونةِ الصدر، ويُدِرُّ البَوْل، ويلين الطبع، وينفع مِن عضة الكلب غير الكَلِب إذا نُطِلَ عليها ماؤه بملح وسَذَاب، وإذا احتُمل، فتح أفواهَ البواسير‏.‏

وأما ضررُه‏:‏ فإنه يورث الشَّقِيقة، ويُصدِّع الرأس، ويُولِّد أرياحاً، ويُظلم البصر، وكثرةُ أكله تُورث النسيان، ويُفسد العقل، ويُغيِّر رائحةَ الفم والنَّكْهة، ويُؤذى الجليسَ، والملائكة، وإماتتُه طبخاً تُذهب بهذه المضرَّاتِ منه‏.‏

وفى السنن‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم ‏(‏ أمَرَ آكِلَه وآكِلَ الثُّومِ أن يُميتَهُما طبخاً‏)‏‏.‏

ويُذهب رائحته مضغُ ورق السَّذَاب عليه‏.‏

باذِنْجان‏:‏

في الحديث الموضوع المختلَق على رسـول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏الباذِنجانُ لما أُكِلَ له‏)‏، وهذا الكلام مما يُستقبح نسبته إلى آحاد العقلاء، فضلاً عن الأنبياء، وبعد‏.‏‏.‏ فهو نوعان‏:‏ أبيضُ وأسودُ، وفيه خلاف، هل هو بارد أو حار ‏؟‏ والصحيحُ‏:‏ أنه حار، وهو مُوَلِّد للسوداء والبواسير، والسُّدد والسرطان والجُذام، ويُفسد اللَّون ويُسوِّده، ويُضر بنتن الفم، والأبيضُ منه المستطيل عارٍ من ذلك‏.‏

حرف التاء

تَمْرٌ‏:‏

ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَن تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَراتٍ‏)‏ وفى لفظٍ‏:‏ ‏(‏ مِن تَمْر العَاليةلم يَضُرَّه ذلك اليَوْمَ سُمٌ ولا سِحْرٌ‏)‏‏.‏

وثبت عَنه أنه قال‏:‏ ‏(‏بيتٌ لا تَمْرَ فيه جِيَاعٌ أهْلُهُ‏)‏‏.‏

وثبتَ عنه أنه أكل التَّمرَ بالزُّبدِ، وأكل التَمْرَ بالخبز، وأكله مفرداً‏.‏

وهو حار في الثانية، وهل هو رَطب في الأُولى، أو يابس فيها ‏؟‏‏.‏ على قولين‏.‏ وهو مقوٍّ للكبد، مُليِّن للطبع، يزيد في الباه، ولا سِيَّما مع حَبِّ الصَّنَوْبر، ويُبرىء من خشونة الحلق، ومَن لم يعتدْه كأهل البلاد الباردة فإنهُ يُورث لهم السّدد، ويُؤذى الأسنان، ويهيج الصُّداع‏.‏ ودفعُ ضرره باللَّوز والخَشْخاش، وهو من أكثر الثمار تغذيةً للبدن بما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكلُه على الريق يقتُل الدود، فإنه مع حرارته فيه قوةٌ تِرْياقيَّة، فإذا أُدِيمَ استعمالُه على الريق، خفَّف مادة الدود، وأضعفه وقلَّله، أو قتله، وهو فاكهة وغذاء، ودواء وشراب وحَلوى‏.‏

تِينٌ‏:‏

لما لم يكن التينُ بأرض الحجاز والمدينة، لم يأتِ له ذكرٌ في السُّـنَّة، فإنَّ أرضَه تُنافى أرضَ النخل، ولكن قد أقسم الله به في كتابه، لكثرة منافعه وفوائِدِهِ، والصحيح‏:‏ أنَّ المُقْسَمَ به‏:‏ هو التينُ المعروف‏.‏

وهو حارٌ، وفى رطوبته ويبوسته قولان، وأجوده‏:‏ الأبيض الناضج القشر، يجلُو رملَ الكُّلَى والمثانة، ويُؤمِّن من السُّموم، وهو أغْذَى من جميع الفواكه وينفع خشونَةَ الحلق والصدر، وقصبة الرئة، ويغسِلُ الكَبِدَ والطِّحَال، ويُنقِّى الخَلْطَ البلغمىَّ من المَعِدَة، ويَغذُو البدن غِذاءً جيداً، إلا أنه يُولِّدُ القملَ إذا أُكثر منه جداً‏.‏

ويابسُه يغذىوينفـعُ العصب، وهو مع الجَـوْز واللَّوز محمـودٌ‏.‏ قال

‏(‏جالينوسُ‏)‏‏:‏ ‏(‏وإذا أُكل مع الجَوْز والسَّذَاب قبْلَ أخذِ السُّمِّ القاتل، نفع، وحَفِظَ من الضرر‏)‏

ويُذكر عن أبى الدَّرْداء‏:‏ أُهْدِى إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم طبقٌ من تينٍ، فقال‏:‏

‏(‏كُلُوا‏)‏، وأكل منه، وقال‏:‏ ‏(‏ لو قُلْتُ‏:‏ إنَّ فاكهةً نزلتْ من الجنَّة قلتُ هذه، لأنَّ فاكهة الجنَّةِ بلا عَجَمٍ، فكُلُوا منها فإنها تَقْطَعُ البَوَاسير، وتنفعُ من النقْرِس‏)‏‏.‏ وفى ثبوت هذا نظرٌ‏.‏

واللَّحمُ منه أجودُ، ويُعَطِّش المحرورين، ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح، وينفعُ السُّعَال المُزْمن، ويُدِرُّ البَوْل، ويفتحُ سدَدَ الكبد والطِّحَال، ويُوافق الكُلَى والمثانة، ولأكلِه على الريق منفعة عجيبة في تفتيح مجارى الغذاء، وخصوصاً باللَّوز والجَوْز، وأكلُه مع الأغذية الغليظة ردىءٌ جداً، والتُّوت الأبيض قريبٌ منه، لكنه أقلُّ تغذيةً وأضرُّ بالمَعِدَة‏.‏

تَلبينةٌ‏:‏

قد تقدَّم أنها ماءُ الشَّعير المطحون، وذكرنا منافعها، وأنها أنفعُ لأهل الحجاز من ماء الشَّعِير الصحيح‏.‏

حرف الثاء

ثَلْجٌ‏:‏

ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اغْسِلْنى مِنْ خطاياىَ بالماءِ والثَّلْجِ والبَرَدِ‏)‏‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه‏:‏ أنَّ الداء يُداوَى بضده، فإنَّ في الخطايا من الحرارة والحريق ما يُضاده الثلجُ والبَرَدُ، والماءُ البارد، ولا يقال‏:‏ إنَّ الماء الحار أبلغُ في إزالة الوسخ، لأنَّ في الماء البارد من تصليب الجسم وتقويته ما ليس في الحار، والخطايا تُوجب أثرين‏:‏ التدنيس والإرخاء، فالمطلوبُ مداواتها بما ينظِّفُ القلب ويُصْلِّبُهُ، فذكر الماء البارد والثلج والبَرَد إشارةٌ إلى هذين الأمرين‏.‏

وبعد‏.‏‏.‏ فالثلجُ بارد على الأصح، وغَلِطَ مَن قال‏:‏ حارٌ، وشُبهته تَولُّد الحيوان فيه، وهذا لا يدل على حرارته، فإنه يتولَّد في الفواكه الباردة، وفى الخَلِّ، وأما تعطيشه، فلتهييجه الحرارةَ لا لحرارتِه في نفسه، ويضرُّ المَعِدَة والعصب، وإذا كان وجعُ الأسنانِ من حرارة مفرطة، سَكَّنها‏.‏

ثُومٌ‏:‏

هو قريب من البصل، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏مَن أكَلَهُما فلْيُمِتْهُمَا طَبْخاً‏)‏‏.‏ وأُهدى إليه طعامٌ فيه ثومٌ، فأرسل به إلى أبى أيوب الأنصارىِّ، فقال‏:‏ يارسولَ الله؛ تَكْرهه وتُرْسِلُ به إلىَّ ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنىِّ أُناجى مَنْ لا تُنَاجِى‏)‏

وبعد فهو حار يابس في الرابعة، يسخن تسخنياً قوياً، ويجفف تجفيفاً بالغاً، نافع للمبرودين، ولمن مزاجه بلغمي، ولمن أشرف على الوقوع في الفالج، وهو مجفف للمني، مفتح للسدد، محلل للرياح الغليظة، هاضم للطعام، قاطع للعطش، مطلق للبطن، مدر للبول، يقوم في لسع الهوام وجميع الأورام الباردة مقام الترياق، وإذا دق وعمل منه ضماد على نهش الحيات، أو على لسع العقارب، نفعها وجذب السموم منها، ويسخن البدن، ويزيد في حرارته، ويقطع البلغم، ويحلل النفخ، ويصفي الحلق، ويحفظ صحة أكثر الأبدان، وينفع من تغير المياه، والسعال المزمن، ويؤكل نيئاً ومطبوخاً ومشوياً، وينفع من وجع الصدر من البرد، ويخرج العلق من الحلق وإذا دق مع الخل والملح والعسل، ثم وضع على الضرس المتأكل، فتته وأسقطه، وعلى الضرس الوجع، سكن وجعه‏.‏ وإن دق منه مقدار درهمين، وأخذ مع ماء العسل، أخرج البلغم والدود، وإذا طلي بالعسل على البهق، نفع‏.‏

ومن مضاره‏:‏ أنه يصدع، ويضر الدماغ والعينين، ويضعف البصر والباه، ويعطش، ويهيج الصفراء، ويجيف رائحة الفم، ويذهب رائحته أن يمضغ عليه ورق السذاب‏.‏

ثريد‏:‏

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏‏.‏

والثريد وإن كان مركباً، فإنه مركب من خبز ولحم، فالخبز أفضل الأقوات، واللحم سيد الإدام، فإذا اجتمعا لم يكن بعدهما غاية‏.‏

وتنازع الناس أيهما أفضل ‏؟‏ والصواب أن الحاجة إلى الخبز أكثر وأعم، واللحم أجل وأفضل، وهو أشبه بجوهر البدن من كل ما عداه، وهو طعام أهل الجنة، وقد قال تعالى لمن طلب البقل‏:‏ والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل‏:‏ ‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏، وكثير من السلف على أن الفوم الحنطة، وعلى هذا فالآية نص على أن اللحم خير من الحنطة‏.‏

حرف الجيم

جمار‏:‏

قلب النخل، ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس، إذ أتي بجمار نخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من الشجر شجرة مثل الرجل المسلم لا يسقط ورقها‏.‏‏.‏ الحديث‏)‏‏.‏ والجمار‏:‏ بارد يابس في الأولى، يختم القروح، وينفع من نفث الدم، واستطلاق البطن، وغلبه المرة الصفراء، وثائرة الدم، وليس برديء الكيموس، ويغذو غذاء يسيراً، وهو بطيء الهضم، وشجرته كلها منافع، ولهذا مثلها النبي صلى الله عليه وسلم بالرجل المسلم لكثرة خيره ومنافعه‏.‏

جبن‏:‏

في ‏(‏السنن‏)‏ عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ ‏(‏أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في تبوك، فدعا بسكين، وسمى وقطع‏)‏ رواه أبو داود، وأكله الصحابة رضي الله عنهم بالشام، والعراق، والرطب منه غير المملوح جيد للمعدة، هين السلوك في الأعضاء، يزيد في اللحم، ويلين البطن تلييناً معتدلاً، والمملوح أقل غذاء من الرطب، وهو رديء للمعدة، مؤذ للأمعاء، والعتيق يعقل البطن، وكذا المشوي، وينفع القروح ويمنع الإسهال‏.‏ وهو بارد رطب، فإن استعمل مشوياً، كان أصلح لمزاجه، فإن النار تصلحه وتعدله، وتلطف جوهره، وتطيب طعمه ورائحته‏.‏ والعتيق المالح، حار يابس، وشيه يصلحه أيضاً بتلطيف جوهره، وكسر حرافته لما تجذبه النار منه من الأجزاء الحارة اليابسة المناسبة لها، والمملح منه يهزل، ويولد حصاة الكلى والمثانة، وهو رديء للمعدة، وخلطة بالملطفات أردأ بسبب تنفيذها له إلى المعدة‏.‏

حرف الحاء

حناء‏:‏

قد تقدمت الأحاديث في فضله، وذكر منافعه، فأغنى عن إعادته‏.‏

حبة السوداء‏:‏

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عليكم بهذة الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام‏)‏‏.‏ السام‏:‏ الموت‏.‏

الحبة السوادء‏:‏ هي الشونيز في لغة الفرس، وهي الكمون الأسود، وتسمى الكمون الهندي، قال الحربي، عن الحسن‏:‏ إنها الخردل، وحكى الهروي‏:‏ أنها الحبة الخضراء ثمرة البطم، وكلاهما وهم، والصواب‏:‏ أنها الشونيز‏.‏

وهي كثيرة المنافع جداً، وقوله‏:‏ ‏(‏شفاء من كل داء‏)‏، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تدمر كل شيء بأمر ربها‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏ أي‏:‏ كل شيء يقبل التدمير ونظائره، وهي نافعة من جميع الأمراض الباردة، وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض، فتوصل قوى الأدوية الباردة الرطبة إليها بسرعة تنفيذها إذا أخذ يسيرها‏.‏

وقد نص صاحب ‏(‏القانون‏)‏ وغيره، على الزعفران في قرص الكافور لسرعة تنفيذه وإيصاله قوته، وله نظائر يعرفها حذاق الصناعة، ولا تستبعد منفعة الحار في أمراض حارة بالخاصية، فإنك تجد ذلك في أدوية كثيرة، منها‏:‏ الأنزروت وما يركب معه من أدوية الرمد، كالسكر وغيره من المفردات الحارة، والرمد ورم حار باتفاق الأطباء، وكذلك نفع الكبريت الحار جداً من الجرب‏.‏

والشونيز حار يابس في الثالثة، مذهب للنفخ، مخرج لحب القرع، نافع من البرص وحمى الربع، والبلغمية مفتح للسدد، ومحلل للرياح، مجفف لبلة المعدة ورطوبتها‏.‏ وان دق وعجن بالعسل، وشرب بالماء الحار، أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة، ويدر البول والحيض واللبن إذا أديم شربه أياماً، وإن سخن بالخل، وطلي على البطن، قتل حب القرع، فإن عجن بماء الحنظل الرطب، أو المطبوخ، كان فعله في إخراج الدود أقوى، ويجلو ويقطع، ويحلل، ويشفي من الزكام البارد إذا دق وصير في خرقة، واشتم دائماً، أذهبه‏.‏

ودهنه نافع لداء الحية، ومن الثآليل والخيلان، وإذا شرب منه ثقال بماء، نفع من البهر وضيق النفس، والضماد به ينفع من الصداع البارد، وإذا نقع منه سبع حبات عدداً في لبن امرأة، وسعط به صاحب اليرقان، نفعه نفعاً بليغاً‏.‏

وإذا طبخ بخل، وتمضمض به، نفع من وجع الأسنان عن برد، وإذا استعط به مسحوقاً، نفع من ابتداء الماء العارض في العين، وإن ضمد به مع الخل، قلع البثور والجرب المتقرح، وحلل الأورام البلغمية المزمنة، والأورام الصلبة، وينفع من اللقوة إذا تسعط بدهنه، وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال، نفع من لسع الرتيلاء، وإن سحق ناعماً وخلط بدهن الحبة الخضراء، وقطر منه في الأذن ثلاث قطرات، نفع من البرد العارض فيها والريح والسدد‏.‏

وإن قلي، ثم دق ناعماً، ثم نقع في زيت، وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربع، نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير‏.‏

وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن، أو دهن الحناء، وطلي به القروح الخارجة من الساقين بعد غسلها بالخل، نفعها وأزال القروح‏.‏

وإذا سحق بخل، وطلي به البرص والبهق الأسود، والحزاز الغليظ، نفعها وأبرأها‏.‏

وإذا سحق ناعماً، واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد من عضه كلب كلب قبل أن يفرغ من الماء، نفعه نفعاً بليغاً، وأمن على نفسه من الهلاك‏.‏ وإذا استعط بدهنه، نفع من الفالج والكزاز، وقطع موادهما، وإذا دخن به، طرد الهوام‏.‏

وإذا أذيب الأنزروت بماء، ولطخ على داخل الحلقة، ثم ذر عليها الشونيز، كان من الذرورات الجيدة العجيبة النفع من البواسير، ومنافعه أضعاف ما ذكرنا، الشربة منه درهمان، وزعم قوم أن الإكثار منه قاتل‏.‏

حرير‏:‏

قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحه للزبير، ولعبد الرحمن بن عوف من حكة كانت بهما، وتقدم منافعه ومزاجه، فلا حاجة إلى إعادته‏.‏

حرف‏:‏

قال أبو حنيفة الدينوري‏:‏ هذا هو الحب الذي يتداوى به، وهو الثفاء الذي جاء فيه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونباته يقال له‏:‏ الحرف، وتسميه العامة‏:‏ الرشاد، وقال أبو عبيد‏:‏ الثفاء‏:‏ هو الحرف‏.‏

قلت‏:‏ والحديث الذي أشار إليه، ما رواه أبو عبيد وغيره، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ماذا في الأمرين من الشفاء ‏؟‏ الصبر والثفاء‏)‏ رواه أبو داود في المراسيل‏.‏

وقوته في الحرارة واليبوسة في الدرجة الثالثة، وهو يسخن، ويلين البطن، ويخرج الدود وحب القرع، ويحلل أورام الطحال، ويحرك شهوة الجماع، ويجلو الجرب المتقرح والقوباء‏.‏وإذا ضمد به مع العسل، حلل ورم الطحال، وإذا طبخ مع الحناء أخرج الفضول التي في الصدر، وشربه ينفع من نهش الهوام ولسعها، وإذا دخن به في موضع، طرد الهوام عنه، ويمسك الشعر المتساقط، وإذا خلط بسويق الشعير والخل، وتضمد به، نفع من عرق النسا، وحلل الأورام الحارة في آخرها‏.‏

وإذا تضمد به مع الماء والملح أنضج الدماميل، وينفع من الاسترخاء في جميع الأعضاء، ويزيد في الباه، ويشهي الطعام، وينفع الربو، وعسر التنفس، وغلظ الطحال، وينقي الرئة، ويدر الطث، وينفع من عرق النَّسا، ووجع حقِّ الوَرِك مما يخرج من الفضول، إذا شرب أو احتقن به، ويجلو ما في الصدر والرئة من البلغم اللزج‏.‏

وإن شرب منه بعد سحقه وزن خمسة دراهم بالماء الحار، أسهل الطبيعة، وحلل الرياح، ونفع من وجع القولنج البارد السبب، وإذا سحق وشرب، نفع من البرص‏.‏

وإن لطخ عليه وعلى البهق الأبيض بالخل، نفع منهما، وينفع من الصداع الحادث من البرد والبلغم، وإن قلي، وشرب، عقل الطبع لا سيما إذا لم يسحق لتحلل لزوجته بالقلي، وإذا غسل بمائه الرأس، نقاه من الأوساخ والرطوبات اللزجة‏.‏

قال جالينوس‏:‏ قوته مثل قوة بزر الخردل، ولذلك قد يسخن به أوجاع الوَرِك المعروفة بالنَّسا، وأوجاع الرأس، وكل واحد من العلل التي تحتاج إلى تسخين، كما يسخن بزر الخردل، وقد يخلط أيضاً في أدوية يسقاها أصحاب الربو من طريق أن الأمر فيه معلوم أنه يقطع الأخلاط الغليظة تقطيعاً قوياً، كما يقطعها بزر الخردل، لأنه شبيه به في كل شيء‏.‏

حلبة‏:‏

يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمكة، فقال‏:‏ ادعوا لي طبيباً، فدعي الحارث بن كلدة، فنظر إليه فقال‏:‏ ليس عليه بأس، فاتخذوا له فريقة، وهي الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان، فيحساهما، ففعل ذلك، فبرئ وقوة الحلبة من الحرارة في الدرجة الثانية، ومن اليبوسة في الأولى، وإذا طبخت بالماء، لينت الحلق والصدر والبطن، وتسكن السعال والخشونة والربو، وعسر النفس، وتزيد في الباه، وهي جيدة للريح والبلغم والبواسير، محدرة الكيموسات المرتبِكَة في الأمعاء، وتحلل البلغم اللزج من الصدر، وتنفع من الدبيلات وأمراض الرئة، وتستعمل لهذا الأدواء في الأحشاء مع السمن والفانيذ‏.‏

وإذا شربت مع وزن خمسة دراهم فُوةٍ، أدرت الحيض، وإذا طبخت، وغسل بها الشعر جعدته، وأذهبت الحزاز‏.‏ودقيقها إذا خلط بالنطرون والخل، وضمد به، حلل ورم الطحال، وقد تجلس المرأة في الماء الذي طبخت فيه الحلبة، فتنتفع به من وجع الرحم العارض من ورم فيه‏.‏ وإذا ضمد به الأورام الصلبة القليلة الحرارة، نفعتها وحللتها، وإذا شرب ماؤها، نفع من المغص العارض من الرياح، وأزلق الأمعاء‏.‏

وإذا أكلت مطبوخة بالتمر، أو العسل، أو التين على الريق، حللت البلغم اللزج العارض في الصدر والمعدة، ونفعت من السعال المتطاول منه‏.‏

وهي نافعة من الحصر، مطلقة للبطن، وإذا وضعت على الظفر المتشنج أصلحته، ودهنها ينفع إذا خلط بالشمع من الشقاق العارض من البرد، ومنافعها أضعاف ما ذكرنا‏.‏

ويذكر عن القاسم بن عبد الرحمن، أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استشفوا بالحلبة‏)‏ وقال بعض الأطباء‏:‏ لو علم الناس منافعها، لاشتروها بوزنها ذهباً‏.‏